المصطلحات الزئبقية
توجد مصطلحات عُرّبت تعريبا خطيّا (أي مكتوبة بحروف عربية مع احتفظها بصوتيتها و مدلولها الأعجمي) لا تثبت على معنى واحد، فكلّما أردت أن تحصرها في معنى أو في معاني سياقية إلاّ و تفرّقت و أفلتت من مدلولها و تملّصت من المراد منها و تشعّبت في أروقة المقاصد. و من أمثلة هذه المصطلحات و أكثرها تأثيرا و تفشيّا في حياة الشعوب عامّة هي مصطلح” الفلسفة”، فتارة تحمل معنى الحكمة و أخرى معنى التأمل و النظر و في سياق آخر المنطق و الجدل و في استعمال نجدها تتحوّل إلى معنى المبادئ و الأسس و القواعد….
من الغريب ألاّ يُـعطى لمثل هذه الألفاظ الاصطلاحية مقابل و ترجمة في اللّغة العربية، ممّا يجعلها تسبح في فضاء العقل تنطّ من معنى إلى آخر و منه كانت بخصائص الزئبق الذي يفلت كلّما أردت أن تجمعه و يتجزّأُ إذا ضغطت عليه. كذلك هذه الألفاظ ذات المعاني المجرّدة أو المعقولة فقد أشبهت في أوصافها خصائص المحسوسات.
و من أمثلة المصطلحات التي لم يُقيّد تعريبها مصطلح ” أكاديمية” فتعريبها خطّي و معانيها متعدّدة ، فمرّة تكون بمعنى كليّة و أخرى منهجية و إجماع حتّى أنّ معناها في لغتها الأمّ فيه اضطراب، حيث أنّ كلمة ” أكاديمية” حسب علم أصول الكلمات أو التأثيل” إيثيمولوجيا” جاء من كلمة ” أكاديموس” و هو اسم تمثال لبطل إغريقي خرافي – لا يُعرف له معنى- موجود في حديقة على بعد 14 كلم من قلب أثينا حيث كان يجتمع أرسطو مع طلاّبه لوضع أسس فلسفة العلوم.
توصف هذه المصطلحات بأنّها فضفاضة و التي اخترت أن أُبدع لها اسما وصفيا و هو اسم ” المصطلحات الزئبقية”، فأمّا وصفها بالفضفاضة فقد سُبقت إليه و هو كونها تأتي على عدّة أقيسة معنوية، و يمكن وصفها بالهلامية ، استعارة من علم النفس في وصف الشخصية الفارغة بالهلامية، أي مفرغة من محتواها المعنوي و مقصودها الاصطلاحي، فزيادة على معناها الأصلي الذي وُضعت له يمكن تسخيرها في قالب و شكل معنوي آخر.
توجد كلمات أخرى استعملت في اختصاصات و مجالات معيّنة و بشكل واضح في وسائل الإعلام مثل مصطلح “جيوسياسية”، فهذه الكلمة المركّبة من شقّ لاتيني معرّب خطيّا و من كلمة عربية معروفة المعنى و المبنى و يُراد بها السياسة الإقليمية أو أحوال السياسة الإقليمية. و الغريب في كلّ هذا أنّ هذه المصطلحات المعرّبة خطيّا بشكل كلّي أو جزئي نجدها في المسائل و القضايا ذات الشأن الكبير أي في السياسة و العقيدة و الفكر.
لدينا مصطلح” إسلاموفوبيا” و هذا شكل آخر من التعريب الجزئي المركّب من كلمة عربيّة بيّنة المعنى ممزوجة بلفظة لاتينية ” فوبيا” و التي معناها الخوف و ارتبطتا على الطريقة الأعجمية بحرف” o” و كان من المفروض أن أن نعطي لهذه المعاني ألفاظا فصحى تدلّ عليها، فكان من الممكن أن نقول ” الخوف من الإسلام” و هو الصحيح، إلاّ أنّ الحفاظ على البنيّة المزجيّة تلك أعطاها ضبابية و أوحى بأنّها مرضيّة و ليست مجرّد اعتقاد خاطئ. فكلمة ” فوبيا” معناها الخوف المرضي في مثل ” كلوسترافوبيا” أي الخوف من الأماكن المغلقة، و هذا أحالنا إلى الأمراض النّفسية و لهذا كان وضعها في بعدها التعريبي الاصطلاحي ليزيل الغموض و اللّبس عنها. فلو مضينا على نفس المنهجية المتّبعة في صياغة هذا المصطلح لأمكن أن نضع مقابل هذا المصطلح ” كريستيانوفوبيا” أي الخوف من المسيحية و ” جيديوفوبيا” أي الخوف من اليهوديّة، ردّا على على هذه المصطلحات الضبابية بالمثل في الترجمة الموجّهة.
مصطلح “إيديولوجيا” أي علم الأفكار من الممكن أن نقول فيه ” العقائد الفكرية” أو المبادئ الفكرية” أو الخيارات الفكرية” أو ” المسالك الفكرية”، و لكن إبقائها على صيغة التعريب الخطّي يجعل مستعملها في فسحة من الغوغائية، فتارة تكون بمعنى العقيدة الفكرية و تارة تحمل معنى تبنّي مسلك فكري و لا معنى أقرب و أحسن من ” المذهب الفكري” أو ” العقيدة الفكرية” . و قول القائل ” بعض الإيديولوجيات” تشير إلى أنّ المتحدّث أو الكاتب يقصد بها التعصّب و الخلاف و التزمّت الفكري.
و عليه فإنّ إبقاء المصطلحات هذه على شكلها المعرّب خطيّا و الحفاظ على مخارجها الأعجميّة يغرقنا في عدم تعيين المفهوم و اضطراب المعنى.
إنّ الحفاظ على بنيويّة المصطلح الأعجمي و إعطائه تعريبا شكليا مظهريّا يدخله في خانة المراوغات و المناورات و الاضطرابات الفكرية و الذي يفرز بدوره خللا معنويا.
يُضاف إلى ما سبق مصطلح ” كدرنة” و هو التأطير، لفظة فرنسيّة عُرّبت خطّا و احتفظت بعجمتها و وُضعت بوزن عربي ” فعلنة” و مصطلحات ” فوروم و لائكية و أجندة و ميتافيزيقا و راديكالية و شوروم و صالون و ديناميكية…”فلكل من المصطلحات المذكورة مقابل اصطلاحي مُتّفق عليه رسميا و لكنّه غير شائع الاستعمال في وسائل الإعلام و الخطابات السياسية و الجامعات و المدارس و المعاهد.
و السؤال الاعتراضي هنا هو:
لماذا أُبقي على الصيغة الأعجمية للمصطلحات المذكورة و مثلها كثير، رغم ثروة اللّسان العربي و وجود الطّاقات و الكفاءات البشرية و المنشآت و الهياكل المخصّصة للتعريب و الترجمة و لم يتمّ اعتماد مقابل اصطلاحي لها؟
و لنختم بمصطلح ” برلمان” و تشريحه يشير إلى أنّه مركّب من كلمة فرنسية ” بارلي” أي تكلّم و ” مان ” بالإنجليزية و معناها الرجل و يكون المعنى الإجمالي المركبّ ” تكلّم الرّجل” مع العلم أنّ مقابله في العربية هو ممثل الشعب أو نائب الشعب. و كلمة “فيروس” و قد اصطلح عليها بمصطلح” حُمة” و لكنّها غير متداولة حيث يُرجع البعض السبب شبه كلمة حُمة بالحمّى و كان من الممكن الاصطلاح على لفظة ّ عُدَيْ” الذي هو أقرب إلى معنى الدسيم و الجوهر الحامل للمرض و المسبب للعدوى.
فمن هذا الطرح نرى أنّه توجد أزمة غياب و متابعة و إقرار و ترسيخ العمل بالمصطلحات من قبل الجهات المختصّة و هو ما جعل إنتاجنا اللّغوي و اللّساني المعاصر و المتمثّل في التعريب الاصطلاحي بعيد عن الفعّاليّة، فالعيب في سياسة التعريب لدينا و ليس في العربية و ما للساننا المعاصر من عيب سوانا.
مترجم، ومهتم بعلوم اللغة واللسانيات