الوقت المقدر للقراءة 7 دقيقة

إنقاذ الدماغ يبدأ من فحص الأمعاء

إنقاذ الدماغ يبدأ من فحص الأمعاء
عدد كلمات المقال: 1,811 كلمة

كانت الأيدي المرتجفة وصعوبة المشي بالنسبة لجوي كايف، أمورًا سيئة، لكن ما كان يضعفه حقًا هو الغثيان. يقول كايف -وهو محامٍ متقاعد من نيو هامبشاير ويعاني من مرض باركنسون-: “لمدة سنتين أو ثلاث، كنت أشعر بالغثيان لعدة ساعات يوميًا”. “كنت أستيقظ في الصباح وأنا غير مرتاح، ولم أتمكن من وضع أي خطة”. “لحسن الحظ، كنت قد تقاعدت بالفعل، لكنني لم أكن أتوقع تقاعدي بهذا الشكل”.

مرض باركنسون هو مرض تنكسي عصبي يؤثر على الخلايا التي تتحكم في الحركة. لقد علم المرضى والأطباء الذين يعالجونهم منذ فترة طويلة أن مشاكل الجهاز الهضمي الشديدة -مثل الغثيان وآلام البطن والإسهال والإمساك- هي سمة من سمات هذا المرض، وفي بعض الحالات، قد تظهر قبل عشرات السنين من حدوث الاضطرابات العصبية. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت الأبحاث حول هذا المرض تشير إلى أن هذه العلاقة ليست مجرد صدفة. حيث يقول الخبراء إن الأمعاء قد تكون نقطة البداية لمرض باركنسون.

إذا تم دعم هذا النموذج من خلال الأبحاث المستقبلية، يمكن أن يحدث ثورة في فهمنا لثاني أكثر أمراض التنكس العصبي شيوعًا في الولايات المتحدة. ويمنح الخبراء فرصة لمساعدة المرضى مثل كايف قبل ظهور الأعراض العصبية. وقد يقدم هذا أيضًا معلومات يمكن أن تساعد في علاج الأمراض العصبية التنكسية الأخرى، بما في ذلك بعض الأمراض الأكثر تدميرًا لصحة الإنسان.

تقول تريشا باسريتشا -الخبيرة في أمراض الجهاز الهضمي العصبي ومديرة البحث السريري في معهد الدماغ والجهاز الهضمي في مركز بيث إسرائيل الطبي-: “إن هدف الجميع هو العثور على علامات حيوية مبكرة لمرض باركنسون، ونحن نأمل أن نجد واحدة في الأمعاء”. “ماذا لو قيل لك أثناء تنظير القولون إن هناك علامات تشير إلى أنك ستصاب بمرض باركنسون ما لم نتدخل الآن؟ ألن يكون رائعًا لو كانت لدينا طريقة للتدخل الآن؟” “هناك الكثير من الخطوات التي يجب اتخاذها، ولكن هذا هو الهدف”.

من الأمور المركزية في رؤية باسريشا هو الجهاز العصبي المعوي للأمعاء، والذي يحتوي على عدد من الخلايا العصبية مثل النخاع الشوكي ويتحكم في عملية الهضم، ويعمل كقسم لتناول الجسم لما يلي: البروتينات والكربوهيدرات والكحول والأدوية والألياف والمبيدات الزراعية والهرمونات التي تعطى للماشية والمواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع الأغذية والبكتيريا والفيروسات وغيرها. وهذا النظام يدير العمليات المعقدة التي تتعلق بما نأكله وكيفية استجابته مثل تحفيز الجسم ليتفاعل مع المواد الغذائية بالاستمرار في السرعة أو الإبطاء.

*مفتاح آخر: التركيز على الطبيعة ثنائية الاتجاه للاتصال بين الأمعاء والدماغ

على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الإجهاد الناجم عن تصور الخطر المحتمل إلى اضطرابات في الجهاز الهضمي، في حين أن الإشارات الصادرة من الجهاز العصبي المعوي يمكن أن تحفز الدماغ على الاستجابة بالجوع الرغبة الشديدة أو الغثيان أو الألم.

قالت باسريشا: “إن الجهاز العصبي المعوي عبارة عن شبكة كبيرة تمتد في جميع أنحاء الأمعاء”. “إنه يرسل باستمرار إشارات تؤثر على عواطفنا ورغباتنا واحتياجاتنا. فبعض أقدم الحيوانات كانت تحتوي على نظام عصبي معوي قبل تطور دماغ الإنسان وقبل تطور النظام العصبي المركزي في الإنسان، لأننا جميعًا بحاجة إلى الطعام. إنه مثل النظام الأصلي في أجسامنا”.

*الرابط بين الأمعاء والدماغ هو رابط ثنائي الاتجاه

تعد الأمعاء أيضًا موطنًا للميكروبيوم، وهو مجتمع تكافلي يضم آلاف الأنواع من البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة الأخرى التي تعمل منتجاتها الكيميائية الثانوية على تعزيز الصحة عن طريق حماية الجسم من مسببات الأمراض وتعديل المناعة. إلا أنه عندما يختل التوازن، يتحول هذا التكافل إلى “اختلال بيئي”، حيث تقوم الميكروبات التي نعيش معها بإطلاق مواد كيميائية تتداخل مع العمليات الصحية. لم يقم الباحثون إلا بخدش السطح المعقد للميكروبيوم، لكنهم حددوا التغيرات في ميكروبيوم الأمعاء -ترتفع بعض البكتيريا بكثرة بينما تنخفض أعداد أخرى- ليس فقط في مرض باركنسون ولكن أيضًا في مرض الزهايمر والتصلب المتعدد والتصلب الجانبي الضموري.

تقول باسريشا: “يعد مرض باركنسون أحد الأمراض المعروفة التي أثارت الكثير من البحث. غالبًا ما نكتشف في العلم أنه عندما نفهم آلية مرض ما، فإن الدروس التي نتعلمها يمكن أن تنطبق أيضًا على أمراض أخرى”.

*نظرية الحالة

يؤثر مرض باركنسون على ما يقرب من مليون أمريكيا، ولكن يُعتقد أن الشكل الأكثر شيوعًا لمرض باركنسون المنتشر هو نتيجة لتفاعل معقد بين العوامل البيئية والوراثية. حيث يتطور هذا المرض على مدار عقود، وهو ناتج عن تراكم بروتينات ملتوية بشكل خاطئ في الخلايا العصبية التي تستخدم الدوبامين -البروتين المسمى ألفا-سينوكلين- التي تؤدي دورًا رئيسيًا في تنظيم الحركة والإدراك والمشاعر. وتؤدي هذه العملية إلى الرعاش المميز للمرض، تليها بطء الحركة، وتغيير في المشية، وفقدان التوازن. كما قد تؤثر هذه الحالة على العضلات في الرقبة والوجه مما يؤدي إلى صعوبة في الكلام. وقد يعاني المرضى من صعوبة في البلع، مما قد يتطلب أنبوب تغذية في المراحل المتقدمة. يمكن أن ينتشر هذا التنكس إلى أنواع أخرى من الخلايا العصبية، وفي بعض الحالات قد يؤدي إلى الخرف.

في عام 2016، قام الباحثون بفحص عينات من الأنسجة المعوية لمرضى باركنسون قبل ظهور الأعراض. ووجدوا أن بروتين ألفا-سينوكلين كان موجودًا في الأمعاء قبل عشرين عامًا من ظهوره في الدماغ. كما قدمت دراسات أخرى أدلة على كيفية انتقال البروتين إلى الدماغ، مما يشير إلى أن المرضى الذين خضعوا لعملية قطع العصب الحائر (قطع العصب الرئيس الذي يربط الأمعاء بالدماغ) كانوا أقل عرضة للإصابة بمرض باركنسون.

أدت هذه الاكتشافات إلى قبول بعض العلماء فكرة أن بروتين ألفا-سينوكلين يظهر أولاً في الأمعاء في بعض أشكال مرض باركنسون. وهناك، قد يتداخل هذا البروتين -أو التغييرات المرتبطة به- مع النظام العصبي المعوي، مما يؤدي إلى الإمساك الشديد وخزل المعدة وأعراض الأمعاء المرتبطة بباركنسون. ثم ينتقل هذا البروتين عبر العصب الحائر إلى الجهاز العصبي المركزي حيث يبدأ في مهاجمة الأعصاب، مما يؤدي إلى التنكس العصبي.

يعتقد بعض الباحثين أن بروتين ألفا-سينوكلين -وهو بروتين مرتبط بمرض باركنسون- يظهر أولاً في الأمعاء ثم ينتقل إلى الجهاز العصبي المركزي عبر العصب الحائر، مما يسبب التنكس العصبي.

في سبتمبر من هذا العام، أكدت باسريشا وزملاؤها هذا الرأي، حيث أشاروا إلى أن تلف الغشاء المخاطي العلوي للأمعاء الدقيقة يرتبط بمرض باركنسون. ووجدت الدراسة -التي نشرت في دورية الجمعية الطبية الأمريكية- أنه من بين أكثر من 9000 مريضا لم تظهر عليهم أي أعراض لمرض باركنسون عند فحصهم، كان أولئك الذين يعانون من تلف في الغشاء المخاطي أكثر عرضة بشكل كبير للإصابة بمرض باركنسون بنسبة 76%.

ويحذر سوبهاش كولكارني -الأستاذ المساعد في كلية الطب بجامعة هارفارد والمؤلف المشارك في الدراسة- على الرغم أن النتائج مثيرة للاهتمام، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. وأشار إلى أن العلماء ما زالوا غير متأكدين من دور بروتين ألفا-سينوكلين في الأمعاء، حيث تم اكتشاف هذا البروتين أيضًا في الجلد والغدد اللعابية. وقال كولكارني: “هذه محاولات أولية، فالعلاقة بين هذه البروتينات في الأمعاء ومرض باركنسون لم يتم فهمها جيدًا بعد”.

*أبحاث إضافية حول مرض باركنسون وغيره

جاءت لورا كوكس إلى مستشفى بريغام ونساء في عام 2019 لإجراء أبحاث ما بعد الدكتوراه في الميكروبيوم، مع التركيز على مرض التصلب المتعدد، وهو مرض تنكسي عصبي يقوم فيه الجهاز المناعي بمهاجمة غمد المايلين الذي يغلف الخلايا العصبية. حيث كانت تعمل في مختبر البروفيسور هوارد وينر في قسم الأعصاب، وكانت توجد لافتة على طاولة وينر تقول: “عالج المرض قدر الإمكان”. أخذت هذه النصيحة على محمل الجد، واعتبرتها جزءًا من هدفها في توضيح كيف يؤثر الميكروبيوم المعوي على هذه الأمراض.

وقالت كوكس -وهي الآن أستاذة مساعدة في علم الأعصاب في كلية الطب بجامعة هارفارد ومركز بريغهام رومني للأمراض العصبية-: “نقول، إذا كنا سنبحث في الميكروبيوم ومرض التصلب المتعدد، فعلينا العمل مع جيراننا”. “أحد الأشياء المهمة جدًا التي ظهرت هو أن هناك دليلًا واضحًا على أن ميكروبيوم الأمعاء يمكن أن يؤثر على الأمراض العصبية.”

بالإضافة إلى مرض التصلب المتعدد، يدرس مختبر كوكس أيضًا مرض باركنسون ومرض الزهايمر ومرض التصلب الجانبي الضموري، محاولًا فك شفرة كيفية تأثير ميكروبيوم الأمعاء على الأمراض التي كان يُعتقد  منذ عقود مضت أنها محصورة في الدماغ والجهاز العصبي المركزي. وقد وجدت هي وخبراء آخرون أن “الاختلال البيئي” – وهو تغير في الميكروبيوم الذي يفضل نوعًا واحدًا من البكتيريا على نوع آخر- يحدث في كل حالة. وتستمر بعض الأسماء نفسها في الظهور: باكتيرويديتس، أكرمانسيا، بروتيا، بريفوتيلا، على سبيل المثال لا الحصر.

وفقًا لكلام كوكس، فإن هذه البكتيريا خلال عمليات حياتها من بقاء وتكاثر وموت، تقوم بامتصاص وإفراز المواد الأيضية، وهذه المواد قد تحمي أو تضر بالصحة، وقد تثير التحولات التنكسية العصبية بطريقتين رئيسيتين. ويمكن أن تتداخل مع الوظيفة المناعية التي قد تزيل البروتينات الضارة مثل الأميلويد الذي يتراكم في مرض الزهايمر. كما يمكنها تعزيز الالتهاب، وهو عامل مهم في تلف الأعصاب في مرض باركنسون.

قالت كوكس: “وجدنا في مرض الزهايمر أن الباكتيرويديتس تحفز الشيخوخة المناعية، مما يمنع عملية الإصلاح المهمة للخلايا الدبقية الصغيرة التي تدخل الدماغ وتزيل الترسبات”. “وفي مرض باركنسون، هناك أدلة قوية تشير إلى أن ميكروبات الأمعاء تساهم في تطور المرض عن طريق تحفيز الالتهاب”.

ووفقًا للبروفيسور فرانسيسكو كوينتانا -أستاذ علم الأعصاب في جامعة بريغهام- فإن المواد الأيضية للأمعاء تؤثر على الدماغ بثلاث طرق رئيسية. حيث يدرس مختبر كوينتانا محور الأمعاء والدماغ والتنكس العصبي. كما في مرض باركنسون، يمكن لهذه المواد أن تنتقل عبر الجهاز العصبي والعصب الحائر، ويمكن أن تدخل الدماغ مباشرة عبر الدم، وعبر الحاجز الدموي الدماغي. ثالثًا، يمكنها تنشيط الخلايا المناعية في الأمعاء التي تدخل الدماغ وتفرز جزيئات إشارة تُسمى السيتوكينات. حيث يمكن لهذه الجزيئات أن تتجاوز الحاجز الدموي الدماغي وتحفز نشاط الخلايا المناعية في الدماغ.

قال كوينتانا: “لا أعرف إذا كان هذا هو السبب أو النتيجة، لكن إذا بنينا نموذجًا لميكروبيوم الأمعاء، فقد يكون له تأثير على أمراض الدماغ، وأنا أعتقد أن هذا مثير جدًا”. “الأمعاء تؤثر على صحة جهازنا العصبي المركزي وصحة الدماغ، وهذا يمنحنا فرصة فريدة في تتبع الدماغ”.

*تفكير متقدم

في عام 2020، كان آرون بربري باحثًا بعد الدكتوراه في مختبر البروفيسور كيفن إيغن في جامعة هارفارد، حيث قام إيغن بتطوير فأر يمكنه تكرار مرض عصبي نادر ولكنه قاتل يُسمى التصلب الجانبي الضموري (ALS).

قام بربري وإيغن بتربية مجموعة ثانية من الفئران لمختبر في معهد برود التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد. كانت الحيوانات متطابقة وراثيًا مع المجموعة الأولى وتعرضت لظروف بيئية مماثلة – الطعام نفسه ودورة الضوء والظلام نفسها- لكنها لم تظهر رد فعل مناعي أو التهاب عصبي مشابه للحيوانات في المجموعة الأولى. أثار هذا الاختلاف فهم الفرق بين المجموعتين، حيث أشارت الأدلة في النهاية إلى الميكروبيوم. واكتشف الباحثون أن بعض الميكروبات في أمعاء فئران هارفارد لم تكن موجودة في فئران معهد برود. كما اكتشف بربري وإيغن أن التحكم في الميكروبيوم عن طريق المضادات الحيوية أو زراعة البراز من فئران معهد برود يمكن أن يحسن أو يمنع أعراض ALS في فئران هارفارد. اعتمد بربري -وهو الآن أستاذ في جامعة كيس ويسترن ريسير- على هذه النتائج واكتشف مؤخرا بروتينًا تنتجه الخلايا المناعية استجابةً لميكروبات الأمعاء التي تزيد من عامل مناعي يسمى إنترلوكين 17A، والذي يسبب الالتهاب في الفئران المعدلة وراثيًا. وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) على دواء يستهدف IL-17A لعلاج الصدفية والتهاب المفاصل الروماتويدي، ومن المحتمل إعادة استخدامه في علاج مرض ALS. بالإضافة إلى ذلك، بدأت أوروبا تجارب بشرية لزراعة البراز في مرضى ALS في مراحل مبكرة.

تتقدم أيضًا الأبحاث في تطوير العلاجات المستندة إلى الأمعاء لاضطرابات الدماغ الأخرى. حيث قام رودي تانزي -خبير مرض الزهايمر- بتطوير “سنايبيوتيك” لتعزيز الميكروبيوم الصحي. تجمع هذه السلالة الاصطناعية بين البروبيوتيك (بكتيريا صحية) والبريبايوتكس (مركبات عالية الألياف تعزز نمو البكتيريا). وفي الوقت نفسه، استخدم كوينتانا أدوات البيولوجيا التركيبية لتصميم ميكروبات -بكتيريا وخمائر وفيروسات- لتقديم الأدوية التي تمنع الالتهاب قبل أن يصبح مشكلة.

قال كوينتانا: “ربما لن نتمكن أبدًا من تحديد ما إذا كان الميكروبيوم قد فاقم المشكلة أو إذا كان مجرد استجابة لاضطراب أعمق في الجسم. ولكن يمكننا أن نرى: هل هناك شيء في الميكروبيوم يمكن أن يعمل كعلامة حيوية؟” “هل يمكننا استخدام الميكروبيوم أو اضطراباته لتطوير علاجات جديدة؟”

المصدر: هارفارد

مترجم عن:

https://www.ebiotrade.com/newsf/2024-12/20241206074907258.htm

أمنية شكري

أمنية شكري توفيق، مصرية، حاصلة على الماجستير تخصص ترجمة المصطلحات طبية بكلية الألسن جامعة عين شمس، حصلت على الليسانس 2012، حاصلة على دبلومة في الترجمة التحريرية

اترك تعليقاً