قد لا يتصور إنسان سوي أن صرحاً علمياً عتيداً مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي يتخذ من صيانة اللغة العربية وتنميتها أهم أهدافه وأسمى غايات وجوده، يضم أعضاء يناهضون التعريب ويعترضون عليه، ويدعون إلى الإبقاء على الإنكليزية أو الفرنسية لغةً لتعليم الطب وغيره من الموضوعات العلمية والتقنية.
ولكن هذا ما حصل فعلاً في المؤتمر السنوي الثمانين للمجمع ، وأدى إلى نشوب معركة فكرية ضارية بين أنصار التعريب ومناهضيه. فقد أطلق الشاعر الكبير فاروق شوشة، الأمين العام للمجمع، الشرارة الأولى في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التي حضرها جميع رؤساء المجامع العربية ومدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط والأعضاء وجمع غفير من المثقفين، إذ انتقد بشدة موقف لجنة الطب في المجلس الأعلى للجامعات المصرية التي أوصت بعدم تعليم الطب بالعربية، ووصفه بأنه موقفٌ سلبي مخالف للدستور وللأنظمة التي تجعل من المجمع الجهة المسؤولة عن القضايا اللغوية، ومغفِلٌ للتجارب العربية الناجحة في هذا المجال، وطالب وزيرَ التعليم العالي المصري الذي كان جالساً إلى جانبه على المنصة، بردّ توصية اللجنة المذكورة واعتماد التعريب.
لقد اختار مجمع اللغة العربية بالقاهرة التعريب موضوعاً لمؤتمره السنوي، على الرغم من علمه بعشرات مؤتمرات التعريب السابقة التي عقدها مكتب تنسيق التعريب، وزراء التربية، ووزراء التعليم العالي، ووزراء الصحة العرب، وغيرهم وانتهوا إلى ضرورة التعريب ، ولكن قراراتهم وتوصياتهم ذهبت أدراج الرياح، كما يقولون.
ويعود السبب في اختيار المجمع هذا الموضوع إلى إدراكه أن هوية الأمة الثقافية أمست تتعرض إلى خطر حقيقي بعد أن أنتشرت الفضائيات والإذاعات ‘ العربية’ التي تبث بالعاميات واللغات الأجنبية، وبعد أن تفشت المدارس الأجنبية في البلدان العربية، وهي مدارس تعلّم منهجاً أجنبياً بلغة أجنبية هي لغة المُستعمِر القديم ( الإنكليزية في بلدان المشرق والفرنسية في بلدان المغرب). ويرتاد هذه المدارس أبناء النخبة السياسية ورجال السلطة والمال، وهم الذين سيتولون الحكم ويديرون اقتصاد البلاد في المستقبل، بفضل تمكنهم من اللغة الأجنبية التي تُستعمَل في الإدارة والتعليم العالي والمؤسسات الاقتصادية والمالية كالشركات والمصارف وغيرها. ولمّا كان خريجو هذه المدارس الأجنبية يجهلون اللغة العربية وثقافتها، فإن كثيرين منهم أخذوا يدعون ـ من مواقعهم الرسمية المؤثرة ــ إلى استعمال اللهجات الدارجة لغة تواصل رسمية وإلى الإبقاء على اللغة الأجنبية. وعلاوة على ذلك فإن وجود هذه المدارس الأجنبية التي تتقاضى أجوراً دراسية باهضة، لا تتيح تساوي الفرص أمام التلاميذ، وتخرّج مواطنين جاهلين بثقافتهم ووطنهم، ويعانون الاغتراب الثقافي فيهاجر كثير منهم إلى الغرب، ضمن العقول والكفاءات المهاجرة.
ومن مفارقات هذه المعركة الفكرية التي دارت في المجمع، أن أبرز اثنين ممن يناهضون تعريب الطب من أعضاء المجمع هما: الطبيب الدكتور أحمد الجارم، وهو ابن الشاعر الراحل علي الجارم المعروف بقصائده العصماء في تمجيد لغة الضاد والدفاع عنها، وهو مقرر لجنة تعريب المصطلحات الطبية في المجمع؛ وشيخٌ من علماء الأزهر يعتمر العمامة الأزهرية هو الشيخ محمد عبد الفضيل القوصي، وزير الأوقاف المصري الأسبق.
وتقوم حجج المناهضين للتعريب على دعوى أن تعريب الطب سيؤدي إلى انخفاض المستوى العلمي للطلاب، وعدم تمكنهم من مواصلة دراساتهم العليا في الخارج، وانقطاعهم عن البحث والتطورات العلمية العالمية، وعدم استطاعتهم خدمة المرضى بصورة مثلى، والسبب في ذلك أن اللغة العربية لا تتوفر على المصطلحات العلمية اللازمة، ولا الكتب الدراسية الكافية، وأن أساتذة الطب ليس في وسعهم القاء محاضراتهم باللغة العربية لأنهم تلقوا تعليمهم العالي بلغة أجنبية.
أما الداعون إلى التعريب، فيرون أن تحقيق التنمية البشرية في البلدان العربية يستلزم أولاً إيجاد مجتمع المعرفة القادر على تبادل المعلومات، بيسر وسهولة، وتمثُّلها والإبداع فيها، ويتطلّب ذلك وجود أداة نفاذ (لغة) مشتركة إلى مصادر المعلومات وإشاعة المعرفة في المجتمع. فالطبيب مثلاً ينبغي أن ينقل معرفته إلى الممرضة والمساعد الطبي والتقني والمريض وجميع أفراد المجتمع، وسيعسر عليه ذلك إذا تلقى علومه بلغة أجنبية. ويقولون إن جميع البلدان المتقدمة تستخدم لغاتها الوطنية في جميع مجالات الحياة ومختلف مراحل التعليم وتخصصاته، أما الدول المتخلفة فسمتها الرئيسية الاعتماد على لغةٍ أجنبية يصعب على الشعب إتقانها. فكوريا التي كانت أفقر دولة في آسيا، وفنلندة التي كانت أفقر دولة في أوروبا، في الستينيات من القرن الماضي، حققتنا تنمية بشرية رفيعة خلال جيل أو جيلين فقط (25 إلى 50 سنة)، بعد التزامهما بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوفير الخدمات الصحية والطبية الجيدة لجميع المواطنين، ونشر التعليم الراقي في جميع البلاد باللغة الوطنية المشتركة، على حساب الدولة، ويمنع القانون انخراط الطلاب في مدارس أجنبية؛ على حين أن البلدان العربية قد تقهقرت على سلم التنمية البشرية الذي يصدره سنوياً البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وأصبحت في عداد البلدان المتخلفة، لأنها تنفق معظم مواردها على الأمن والجيش والشرطة والتسلح، أما التعليم والصحة فلا تنفق عليهما إلا القليل وتتركهما للأجانب والتجّار أصحاب المدارس الأهلية أو الحرة.
وفي أثناء المحاضرات العشرين التي نظّمها المجمع والمناقشات التي تلتها، ذُكِرت بعض الملاحظات الصادمة منها الملاحظة التي أدلى بها رئيس المجمع الدكتور الشيخ حسن محمود الشافعي ومفادها أن كل نظام تربوي يمثل مصالح الطبقة المهيمنة في المجتمع ويحقق أهدافها في إعادة إنتاج المجتمع الذي يخدم مصالحها، وأن النظام التربوي الطبقي في البلدان العربية الذي يوفر مدارس أجنبية لأبناء الأغنياء ومدارس حكومية سيئة أو لا مدارس لأبناء عامة الشعب، يتلاءم ومصالح الأنظمة العربية الحاكمة. ومنها ما قاله الدكتور أحمد مطلوب رئيس المجمع العلمي العراقي الذي أكّد أن خريجي كليات الطب في العراق، رسبوا في الاختبارات التجريبية للغة الإنكليزية، ولم ينجحوا حتى في فهم النصوص التي درسوها بالإنكليزية. ومنها استشهاد أحدهم بمقولةٍ للمفكّر المغربي الراحل الدكتور محمد عابد الجابري وردت في كتابه عن مشاكل التعليم، مفادها أن المستعمِر نجح في تكوين نخبةٍ عربية تؤمن بطروحاته وتوجهاته وثقافته. ومنها ما رواه أحدهم عن طبيبٍ قوله: لو كتبتُ الوصفة باللغة العربية لما احترمني المريض، وعلّق الراوي على ذلك بقوله: إنها أرستقراطية العِلم.، ملمحاً إلى أن الأمّة لا تتقدّم مالم يكن العِلم جماهيرياً شعبياً، وليس محصوراً في نخبة محدودة.
وبعد اسبوعين من الجلسات المغلقة والمفتوحة، أصدر المجمع
توصياته وفي مقدمتها ضرورة العمل على وضع تخطيط لغوي لقضية التعريب في ضوء القرار السياسي الملزم، والتنسيق بين المجامع اللغوية العربية في وضع المصطلحات، وبين بنوك المصطلحات العربية. وضرورة استخدام اللغة العربية الفصيحة الميسّرة في برامج وسائل الإعلام ، وعدم اقتصارها على النشرات الإخبارية. وضرورة العمل على زيادة المحتوى الرقمي بالعربية على مواقع الشابكة (الإنترنت) لتكون المعلومات متاحة أمام الباحث العربي. وضرورة أهتمام وزارات التعليم بتدريب المعلمين والأساتذة على استخدام العربية الفصيحة الميسرة في جميع مراحل التعليم ومختلف تخصصاته، والاهتمام في الوقت نفسه بإتقان اللغات الأجنبية.
ويُعدّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي أُنشئ سنة 1932 أنشط المجامع العربية إن لم يكن أقدمها ( أُسِس المجمع العلمي العربي السوري بدمشق سنة 1919). فلمجمع القاهرة حوالى أربعين لجنة علمية تجتمع أسبوعياً على مدار السنة، ويؤطرها علماء مصر من أعضاء المجمع وخبراؤها، وتتولى وضع عشرات الآلاف من المصطلحات العلمية في المجالات المعرفية المختلفة: كالطب، والرياضيات، والكيمياء، والحاسوب، إلخ. كما ينشر المجمع سنوياً عشرات المعاجم والكتب العلمية واللغوية، ومئات القرارات الرامية إلى تبسيط قواعد اللغة العربية وكتابتها وأساليبها. ويضم مجمع الخالدين أربعين عضواً عاملاً مصرياً، وعشرين عضواً عاملاً من البلدان العربية والمستعربين الأجانب، وعشرات الأعضاء المراسلين من جميع أنحاء العالم.
*أديب عراقي/ عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة
جريدة القدس العربي، العدد 7717
15 أبريل 2014